[size=16]ومن صور الإقرار أيضاً ما ذكره بعض العلماء من أن امرأة جاءت إلى عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – تسألها عن المرأة إذا عقلت بعيرها ماذا عليها ؟ فلما علمت أم المؤمنين بقصدها 0 وأنها ساحرة قد عقل زوجها عن النساء ، أمرت عائشة بإخراجها عنها ( نقلاً عن الزواجر لابن حجر – 2 / 100 ) 0
والإقرار بالسحر له حالتان :
الحالة الأولى : الإقرار حقيقة :
وذلك بأن يعترف الشخص بأنه ساحر وارتكب جريمة السحر في شخص معين ، ويبين الكيفية التي تم بها الآلة المستخدمة فيه إن وجدت 0
الحالة الثانية : الإقرار حكماً :
ويكون باليمين المردودة ، وذلك كأن أقيمت دعوى على شخص واتهم فيها بأنه ساحر يستخدم السحر ويفعله إضراراً بالناس ، فيأتي ذلك الشخص وينكر هذا الاتهام وإذا طلب منه اليمين – عملاً بالقاعدة الشرعية " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " – نكل عن اليمين 0
فهذا النكول منه عن اليمين يعتبر إقراراً حكماً عند بعض العلماء منهم علماء الشافعية ( نقلاً عن مغني المحتاج – 4 / 118 ، حاشية الشرقاوي – 2 / 386 ، 387 ) 0
فإذا صدر الإقرار صحيحاً مستوفياً لشروطه أصبح المقر محلاً للمسؤولية الجنائية وحقت العقوبة الشرعية المقررة ، ومما هو جدير بالذكر أن الشريعة الإسلامية لا تنظر إلى فعل الجاني مجرداً بل تنظر أيضاً إلى القصد ، وعلى أساس ذلك تتحدد المسؤولية وتوقع العقوبة المقررة في الشريعة الإسلامية 0
2)- إثبات السحر بالشهادة :
الشهادة لغة :
مشتقة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما شاهده ، وهي لغة الخبر القاطع ، لأن الأصل فيها البيان والإظهار لحفظ الحقوق ومنه قوله تعالى : ( شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) ( سورة التوبة – الآية 17 ) ، أي بينوا ما هم عليه ، والمشاهدة هي المعاينة ( نقلاً عن كشاف القناع – 6 / 404 ، راجع مادة شهد في المعاجم ) 0
وهي عند علماء الشريعة :
فقد عرفها الحنفية :
بأنها إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء ( نقلاً عن فتح القدير – 7 / 364 ) 0
والشهادة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع : أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ) ( سورة البقرة - الآية 282 ) ، وأما السنة فقوله " شاهداك أو يمينه " ( نقلاً عن صحيح البخاري – 5 / 280 ) 0
وأما الإجماع :
فقد أجمع علماء الأمة على شرعيتها لأن الحاجة داعية إليها خاصة في هذه الأزمان المتأخرة التي كثر فيها التجاحد بين الناس ، ثم هي معاونة للقاضي في الكشف عن الحقيقة والوصول إليها 0
وقد كان القاضي شريح – رحمه الله – يشجع عليها طلباً للنجاة من الله تعالى وكان مما قال في هذا : " القضاء جمر فنحه عنك بعودين " يعني بشاهدين ( نقلاً عن كشاف القناع – 6 / 404 ) 0
وقد اختلف العلماء في ثبوت السحر بالبينة – البينة : اسم لما يبين الحق ويظهره / راجع الطرق الحكيمة – ص 28 - على رأيين :
الرأي الأول : إن السحر يثبت بالبينة كما يثبت بالإقرار ، لكن ما هي البينة التي يقصدونها ؟؟؟
فالبعض يرى : أنها الشهادة مطلقاً سواء كانت أربعاً أو أقل من ذلك 0
قال القرطبي مؤيداً هذا الرأي : لو ثبت على الساحر بينة بالسحر ووصفت البينة كلاماً يكون كفراً وجب قتله ، ووصف الكلام المكفر لا يكون إلا باللسان المعبر بالشهادة ( نقلاً عن الجامع لأحكام القرآن – 1 / 438 ، أحكام القرآن – 1 / 50 ، حاشية ابن عابدين – 4 / 240 ، فتح القدير – 6 / 98 ) 0
ويرى بعضهم أن البينة تشمل الشهادة واليمين والنكول عنه ، وتكون شاهد الحال لأن قوله " البينة على المدعي " معناه أن على المدعي أن يظهر ما يبين صحة دعواه ، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق ، حكم به هكذا ذكره الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله - ( نقلاً عن الطرق الحكيمة – ص 28 ، بداية المجتهد – 2 / 423 ) 0
والمعروف عن ابن القيم أنه يعول على الأمارات والقرائن كالمالكية ، ويرى أن من خص البينة بالشهادة لم يوف البينة مسماها حقاً ، وأنها لم تأت في القرآن قط مراداً بها الشهادة وإنما مراداً بها الحجة والدليل والبرهان ( نقلاً عن الطرق الحكيمة – ص 4 ، 8 ، 14 ) 0
الرأي الثاني : إن إثبات السحر لا يمكن تصوره بالبينة بل يثبت بالإقرار فحسب :
وضرب أصحاب هذا الرأي مثلاً : بمن ادعى على ساحر أنه قتل أباه فحينئذ لا يفصل في الدعوى حتى يُسأل الساحر ويعمل حينذاك بمقتضى بيانه وهذا هو الظاهر ، وقد حكى هذا الرأي عن بعض الشافعية وذكره ابن حجر العسقلاني وهو ظاهر كلام الإمام ابن حزم ( نقلاً عن مغني المحتاج – 4 / 109 ، صحيح مسلم بشرح النووي – 14 / 176 ، نيل الأوطار – 7 / 363 ، فتح الباري – 10 / 236 ، المحلى لابن حزم – 13 / 469 ، 480 ، الأشباه والنظائر للسيوطي – ص 538 ) 0
أما عن أدلة الرأيين : فإننا لم نجد لأصحاب الرأي الأول – فيما اطلعت عليه – دليلاً على ما ذهبوا إليه ، ولعلهم استندوا في هذا إلى أن الأحكام الشرعية يجري إثباتها طبقاً لقواعد الإثبات العامة التي جاءت بها الشريعة الغراء 0
والواقع : أن الشهادة أمر حيوي وملح جداً ، ذلك لأن إثبات الوقائع ومنها الجرائم يتوقف عليها ، ومتى ثبتت تقرر العدالة ، فلو أننا اقتصرنا في الإثبات على الإقرار فحسب – ولا يحدث الإقرار قليلاً – لما أمكن تضييق الخناق على المجرمين ومنهم السحرة ولاستمروا في إجرامهم وضاعت بسبب ذلك أموال وحقوق لا قبل لأحد باحتمالها 0
وأما أصحاب الرأي الثاني : فقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بدليل عقلي فقالوا : إن شهادة الشاهد على الساحر يترتب عليها عقوبة ، والشاهد لا يعلم قصد الساحر ولا يشاهد تأثيره ( نقلاً عن حاشية الشرقاوي – 2 / 386 ) 0
مع أنه قد نقل عن بعض علماء الشافعية أن السحر يثبت بالبينة كما لو قال سحرته بنوع كذا ، ويشهد شاهدان كانا ساحرين ثم تابا منه بأن هذا النوع يقتل غالباً أو نادراً فيثبت بما يشهدان به ، وممن قال بهذا ابن الرفعة من علماء الشافعية على ما نقله عنه الخطيب الشربيني ( نقلاً عن مغني المحتاج – 4 / 120 ، الأشباه والنظائر للشافعي – ص 538 ) 0
* صور من إثبات السحر بالشهادة :
ومن ذلك ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره : أن يشهد شاهدان بأن فلاناً يعتقد أنه يصل بالتصفية إلى أن تصير نفسه مؤثرة في إيجاد جسم أو حياته أو تغيير شكل وهو ما يسمى بسحر أصحاب الأوهام فهذا النوع من السحر هو الذي لا نزاع في كفر من يستخدمه ( نقلاً عن تفسير الرازي – 1 / 449 ) 0
ومن ذلك أيضاً ما ذكره ابن خلدون في مقدمته : من أنه شاهد بنفسه بعضاً من المنتحلين للسحر وعمله أنهم كانوا يشيرون إلى كساء أو جلد ، ويتكلمون عليه في سرهم فإذا هو مقطوع متخرق 0
كذلك شاهد ابن خلدون : من كان يشير إلى بطون الغنم في مراعيها بالبعج ، فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض ، وقد ذكر أمثلة كثيرة على ذلك منها ما شاهدها بنفسه ومنها ما سمعها من الثقات ( نقلاً عن مقدمة ابن خلدون – ص 424 ) 0
وإذا كان ابن خلدون وهو من الثقات المسلمين – على سبيل المثال – شاهد عيان على جرائم بعض السحرة التي جعلته يشاهد آثار السحر وأضراره ، فإنه حينئذ لا وجه لمن منع من إثبات جريمة السحر بالبينة ، وأن الصواب هو ما عليه جمهور أهل السنة من أن السحر يثبت بالإقرار والبينة ولا سبيل إلى الشك في هذا والله أعلم 0
3)- إثبات السحر بالقرائن :
ذكرنا من قبل أن جمهور العلماء لا يسلم باعتبار القرائن دليلاً عاماً من أدلة الإثبات ، أما ابن القيم ومن يرى رأيه فيأخذون بها حتى لا تضيع حقوق الناس ، والحق : أن الشريعة الإسلامية عرفت القرائن من يوم وجودها وبنت بعض الأحكام على هذا الأساس ، ولعل في تبرئة يوسف عليه السلام مما اتهمته به امرأة العزيز خير دليل على ذلك حيث استخدمت في ذلك القرائن إلى جانب الشهادة ، وذلك في قوله تعالى : ( إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) ( سورة يوسف – الآية 26 ، 28 ) فكون القميص كان مشقوقاً من خلفه قرينة دالة على أن يوسف كان يريد الفرار من الفاحشة ولم يردها 0
ومن أعمال القرائن كذلك النكول عن اليمين ممن أنكر ، عند من يرى أن النكول يؤدي إلى إثبات الجريمة إذ أنه ليس إلا قرينة على أن الاتهام الذي وجه للمتهم صحيح ( نقلاً عن نهاية المحتاج – 7 / 376 ، المغني لابن قدامة – 10 / 6 – طبعة المنيرة ) 0
يتبع