قيام الليل
معلوم ان المحافظة على صلاة الليل سبب لحضور القلب بين يدي الله تعالى وبكائه وتأثره بآي الذكر الحكيم و القرآن العظيم ـ على ما فيه من مشقة و عناء ـ و قد سئل الحسن البصري عن أشد شيء و أصعبه على الإنسان فقال : قيام الليل, فقيل له : فما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها ? فقال : لأنهم خلوا بالرحمان فألبسهم من نوره !
وقد خلقنا الله تعالى, و أراد ان يعرف قدره في قلوبنا ولكي يعرف الناس ربهم ويروا نعمه وآلاءه...ولهذا يقول سبحانه في الحديث القدسي : " خلقت الخلق لأعرف " و قال الله تعالى " وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ".
الرسول (ص) قدوتنا في قيام الليل
و إذا قرأنا سورة المزمل وجدنا أنا الله تعالى يأمر نبيه محمد (ص) في أولها قائلا : " يَا أَيُّهَا المُزَّمِّل*قُمِ اللّيلَ إِِلاَّ قَلِيلاً.." <المزمل : 1,2> أي ان الأصل عند النبي (ص) ان يقوم معظم الليل او نصفه على الأقل او ينقص منه قليلا..ومعلوم ان قيام الليل كان فريضة على النبي (ص) وهو سنة منذوبة لأتباعه و أحبابه المسلمين " أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً " <المزمل : 3> قد تعني ثلث الليل " أَوْ زِدْ عَلَيْهِ " كأن يقوم ثلثي الليل مثلا " وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً " <المزمل : 4> أي إقرأ القرآن بتأن واحرص على إعطاء كل حرف حقه ومستحقه وصفته..
ولذا أوصيك يا أخي ويا أختي ان نقوم الليل, ونقرأ القرآن كأنما أنزل علينا, وكأن الله يخاطبنا نحن!
وعندما يقول تعالى : " يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " فأعر سمعك و قلبك لله تعالى وتدبر و انصت, فإنه إما خير تأمر به أو شر تنهى عنه. وإذا ما قرأت آيات عن الحساب فتخيل انك واقف بين يدي ربك وأنه يحاسبك على أعمالك في الدنيا. و إذا قرأت آيات عن الجنة فتخيلها وابتسم,وتذكر رسول الله (ص) عندما كان يصلي بالمسلمين ذات مرة وعندما قرأ آيات عن الجنة مد وده كأنه يقطف شيئا من ثمارها! وإذا قرأت آيات عن النار تخيل أهلها وهم يصطرخون فيها ويعذبون.
ولهذا فإن الذي يريد أن يكف نفسه عن المعاصي ويردعها عن الشهوات والحرام, لا بد أن يؤدب النفس في الليل بحسن القيام وطول القراءة والتدبر والخوف من الله تعالى.
ثم يقول تعالى : " وَاُذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً " <المزمل : 8> أي أقلع قلبك عن كل الشواغل الدنيوية وانقطع إلى طاعة الله جل وعلا واجعل فرحك وحزنك لله وبالله لا بالدنيا وشهواتها وغفلاتها.
وأود أن أسألك أخي أختي سؤالا : ما هو أول شيء في قلبك?! والقلب سمي قلبًا لسرعة تقلبه, وهو سريع التأثر بالأشياء من حوله.. وأنت سريع التأثر بزوجك وأولادك وأحبابك..فهل جربت ان توجه هذه الحساسية لله تعالى?! ولا تقل أنا قلبي قاس أو أنا لا أستطيع البكاء أو أنا لا أتأثر بالقرآن...إلخ , فالقلب ـ إي قلب ـ فيه خير, ولكنك لم تستثمر هذا الخير. وجرب قيام الليل أسبوعا واحدا وسترى لذلك أثرا عظيما.
وقدوتنا (ص) كان يقوم معظم الليل ويشق على نفسه فتسأله أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها : يا رسول الله..ألا ترفق بنفسك.. ألا تنام قليلا ? فيقول (ص) : " مضى زمن النوم يا خديجة " .
وقد كان بعض الصحابة من شدة خوفهم من الله وحبهم له يقومون الليل كله, فنزلت آخر آية في سورة المزمل تخفف عنهم وتقول : " فَاقْرَؤُاْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " <المزمل : 20> .
والسؤال لمذا لا نقلد الصحابة رضي الله عنهم في قيام الليل واجتهادهم في الطاعة ?!
واعلم ان قيام الليل صفة من صفات عباد الرحمان المذكورين في آخر سورة الفرقان. يقول تعالى عنهم : " وَعِبَادُ الرََّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَ خَطَبَهُُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا*وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمُ سُجَّدَا وَقِيَامًا " <الفرقان : 63,64> كانوا يبيتون لربهم ساجدين وقائمين, فكيف نبيت يحن ونقضي ليالينا ?!? أمام التلفاز ? أم في المسارح والملاهي? أو مع أصدقاء السوء ?!
فبعض الناس يظلون طوال الليل ساهرين
أمام التلفاز فإذا ما أوشك الفجر أن يؤذن ذهبوا إلى مضاجعهم !! فيجاهدون أنفسهم في المعصية واللهو.. ولا يجاهدونها في طاعة الله جل وعلا !!
فبالله عليكم أي حياة ينعم بها هؤولاء ??!
والله العظيم محرومون!!
ويقول الله تعالى عن المؤمنين في سورة السجدة : " إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّدًا وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ*تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " <السجدة : 15,16>
ومعنى تتجافى عن المضاجع : أي أنها لا تستطيع الصبر على النوم, تكره الفراش اللين و الراحة !! كأنه بينه وبين السرير جفوة وخصاما فلا يستطيع أن يمنع نفسه من مناجاة الرحمان ومخاطبة الواحد المنان !
مسكين والله من لم وذق لذة القيام وحلاوة المناجاة !!
ويقول سبحانه عن جزاء هؤولاء وثوابهم : " فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " <السجدة : 17> إنهم أخفوا طاعتهم وعبادتهم عن الناس.. فأخفى الله ثوابهم العظيم.. وما تقر به أعينهم من المنح والعطايا.. والجزاء من جنس العمل.
صورة من قيام النبي (ص)
روي ان رجلا أتى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقال : أخبريني عن أعجب ما رأيت من رسول الله (ص) فقالت : وأي أمره لم يكن عجبا ؟! أتاني ليلة (ص) فدخل معي في اللحاف حتى إذا مس جلده جلدي, قال : " ذريني أتعبد لربي ساعة ", فقلت له : والله إني لإحب قربك ولكني أؤثر هواك.. (انظر ان هوى النبي (ص) في قيام الليل) ! فهل رأيت أحسن من هذا ?! ).. فقام (ص) يصلي فبكى حتى كثرت دموعه, حتى رأيت دموعه تبل صدره.. (ولم تقل تبل لحيته.. بل صدره) ! ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى.. فما زال كذلك حتى طلع الفجر, فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الفجر, فرآه يبكي فقال لا يبكيك يا رسول الله ? فقال (ص) ; "وكيف لا أبكي يا بلال وقد نزلت عليّ الليلة هذه الآيات.." إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لأَيَاتٍ لأْْوْلِي الأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " < آل عمران : 190,191>
ثم قال (ص) : "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ".
اعلم يا أخي ويا أختي أن هناك جنة في الدنيا كما أن هناك جنة في الآخرة, وجنة الدنيا هي قيام الليل.. والخلوة بالرحمان سبحانه وتعالى. بل إنها أفضل من الدنيا وما فيها كما أخبر المعصوم صلوات الله وسلامه عليه قال : "ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ".
وأنا أدعوك أخي أختي أن تجرب قيام الليل وتذوق حلاوة المناجاة.. ولقد جربنا أشياء كثيرة في حياتنا كاللهو و اللعب والسهر...فلنجرب قيام الليل ومناجاة السميع العليم.
واعلم أن قيام الله دليل على حب الله للإنسان.. فمن وفقه الله واعانه على قيام الليل فإن هذا يعني أن الله تعالى يحبه.. ولهذا جاء في الأثر " إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك "
وعلى قدر تميزك في قيام الليل.. على قدر حب الله لك.. والقابض على دينه في هذا الزمان كالقابض على وله ثواب عظيم.. وكذالك المحافظ على قيام الليل لا شك ان له اجرا عظيما وثوابا كبيرا.. " وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " <سبأ : 13>
منقول للفائدة