م لبنانيــة تقتل بناتهــا الثلاث بـوجبــة سـمّ وتنتحــر أخر تحديث: الأحد 06 ديسمبر 2009 الساعة 10:00 صباحاًالأب المفجوع يبكي إحدى بناته
بيروت: زهرة مرعي
«الله
ينجينا من ساعة التخلي». عبارة كانت لسان حال كل مَن التقيناه في بلدة
بحرصاف القريبة من بكفيا في جبل لبنان، غداة دفن المواطن المفجوع بول جلخ
أفراد عائلته كافة: زوجته غريس وبناته الثلاث: ميليسا (13 عاماً)، ومديسون
(10 أعوام)، وألفريدا (7 أعوام)، اللواتي عاد على عجل من البحرين (حيث
يعمل) ليجدهنّ في نوم أبدي.
document.write('');
[img][/img] جريمة موثقة
البلدة
الهادئة الجميلة لا تزال مفجوعة، غير مصدّقة هول ما حصل. غريس .اب جلخ
الأم التي بلغت الأربعين من عمرها، تخطط وتنفذ بـدم بارد، جريمة قتل
بناتها الثلاث. وبعد تأكدها من أن السمّ فعل فعلته بهنّ، تقتل نفسها
وتستلقي قربهنّ لترافقهنّ في رحلة الموت. إنها جريمة موثقة بالصوت والصورة
في شريط فيديو صوّرته غريس، وتظهر فيه ألفريدا تتأوه من الألم في بطنها
وتتقيأ وتنادي ... مامي. وفي الصورة الموثقة أيضاً تنقل غريس طفلتيها
ألفريدا ومديسون إلى السرير، وتحاول نقل ميليسا ولا تقوى، فتتركها على
الأرض لتفارق الحياة حيث هي.
أما الأم القاتلة، فقد وُجدت على
الكنبة في الغرفة نفسها، بينما عُثر في المطبخ على بقايا السمّ القاتل
الذي تُرش به المزروعات (لانيت)، الذي دسّته غريس في سلطة الفاكهة التي
تناولتها الفتيات من دون أن يعلمن أنها وجبة الموت. في اليوم الثاني على
الجريمة التي قضّت مضاجع اللبنانيين، كان الوجوم لا يزال على الوجوه.
العائلة مجتمعة في صالون الكنيسة تتقبل التعازي. اختفت أصواتهم جميعاً من
شدة الصراخ منذ اكتشاف الجريمة وحتى ما بعد الدفن. أصواتهم متحشرجة يردون
بهمس وبحّة على عبارة «الله يصبركم». بالكاد قالت الجدّة والدة بول: «كان
بدي يمشوا البنات بجنازتي مش الع.». وتضرب على ركبتيها بين الحين والآخر.
لا متهمين في الجريمة.. لأن القاتل فيها هو المقتول
الجد
صامت وصــابر. العمـان لا يزالان تحت هول الفاجعة. عاد الأب المفجوع من
صالون داخلي. رفض دعوة والدته لتناول بعض الطعام. الجميع كانوا يرفضون
بتهذيب واحترام أن يقولوا أي كلمة للصحافة لا مباشرة ولا مداورة. أما
الصورة، فمرفوضة تماماً. قمنا بواجب العزاء، في لحظات من الصعب تخيّلها
لشدة الحزن المخيّم على المكان، ولشدة الأسى الذي يعتصر القلوب، وخرجنا
بحرج الباحث عن خبر والمتفاعل مع جريمة ولا أبشع، أُقفل ملفها ولن يحاكَم
فيها مجرم لأن القاتل فيها صار أيضاً المقتول.
صمت مطبق
في
طريقنا داخل بلدة بحرصاف، نستدل إلى منزل العائلة. هو بناء حجري بدا كأنه
يحبس دموعه ويظهر من بعيد وحوله عدد من السيارات. في الطريق إليه، ليس
هناك سوى الصمت. حتى العصافير تنادي بعضها بصوت خافت. الأبواب جميعها
مقفلة. لا حياة في هذا البناء الذي بدا أنه اشتاق إلى ضجيج الحياة الذي
كانت تضخّه ميليسا ومديسون وألفريدا في المكان.
في الطابق الأرضي
حيث وقعت الجريمة، لا تزال رائحة الموت تنبعث. هي عطلة نهاية الأسبوع، لكن
لا حركة للأطفال في هذا المكان. والـ«سكوتر» على باب المبنى تنتظر ربما
ألفريدا لتلهو بها.
في اليوم التالي للجريمة تبدو بحرصاف وكأنها
قررت الصمت، فما تناولته الصحف المحلية عن الجريمة في رأي أهل البلدة لم
يكن منصفاً. واللقاء الأول لنا، جاء بالصدفة مع زوجة عم بول جلخ، الذي
يعمل منذ نحو عشر سنوات مدرّب خيل في الخليج وابن عمه. وعندما نسأل السيدة
المصدومة عن وقع الجريمة عليها تقول: «تخلّت الأم عن إيمانها بالله. رحم
الله الأطفال وغفر لها جريمتها. كان بول كل أسبوعين يعود من الخليج ويمضي
مع عائلته أياماً ويعود للسفر». وترفض هذه السيدة ما قيل عن مشاكل بين
غريس وبول وتقول: «كان مْعَيشها أحلى عيشة. تسكن في البناء نفسه مع والديه
وأخويه، وكل منهم في طابق خاص. كان يُعلّم بناته في «مدرسة يسوع ومريم»
وهي من أغلى المدارس». وتخلص إلى القول: «بيت وأُقفل. راح يسمح قلب بول
يفوت ع بيتو بعد؟». وعندما نسأل السيدة جلخ عن اسمها الصغير، طالبين
التقاط صورة لها ترفض، وتقول: «ما بدي حدا يفهمني غلط».
ونحن نغادر
الحي الذي يقع فيه منزل بول جلخ، نلتقي سيدة ترفض التحدث عبر آلة التسجيل
والالتفات إلى الكاميرا. وبعد حجبهما عن النظر تقول لنا: «كانت غريس ست
الستات. همها الوحيد بناتها ومنزلها. نعرفها جميلة وهادئة وست بيت وأماً
مثالية. كما نعرفها على وئام ووفاق كبيرين مع بول. وهو قبل أيام كان هنا،
حيث احتفلا معاً بعيد زواجهما. كما أنها سيدة اجتماعية، لها نشاط اجتماعي
وديني. وعلاقتها بالجميع ودية جداً. أما شخصيتها فقوية وواثقة بذاتها».
المختار
لم يكن في مكتبه. وعادة يكون المختار ناطقاً باسم أهل قريته. أما صاحبة
المخبز فرفضت أن تكون على معرفة بغريس .اب، «لكن حماتها تأتي لتشتري من
عندنا، وهم ناس طيبون جداً». وتصر السيدة على أنَّ اسمها وصورتها خط أحمر.
مشهد لا يُحتمل
بالقرب
من الكنيسة، حيث يتم تقبل العزاء، سألنا سيدة مسنّة: هل تحقدين على غريس؟
فقالت: «لماذا أحقد عليها؟ سامحها الله وغفر لها خطاياها. هي ساعة تَخلٍّ.
هي لا شك امرأة مريضة وكانت تحتاج إلى مساعدة. أختها تسكن بالقرب من هنا،
لماذا لم تنظر إليها وتساعدها؟ الله أعلم ما بها».
عشية 19 «تشرين
الثاني»، ونحو الساعة السادسة والنصف مساءً، مرّ بول جلخ بسيارته ومعه
شقيقة زوجته من أمام محل الحلاق جميل الراعي، سلّم عليه بنقرتين من بوق
السيارة، من دون أن يتوقف. وبعد أقل من ساعة، وصل الخبر إلى الراعي يفيد
بوقوع جريمة في منزل بول جلخ. أقفل دكانه وذهب مسرعاً، فبول صديقه،
وبينهما خبز وملح. ويقول الراعي: «يا لهول ما رأيتُ. الأب منهار وغائب عن
الوعي. حضر الطبيب وطلب نقله من المكان. رائحة الموت تنبعث من كل أرجاء
المنزل. فالجريمة مضى عليها أكثر من 20 ساعة، والشوفاج كان لا يزال يعمل،
ما أسهم أكثر في انتفاخ الجثث وانبعاث الرائحة منها».
نسأله: ماذا
رأى في غرفة النوم؟ يتنفس الصعداء، ويضبط نفسه ويقول: «لحظة دخولي غرفة
النوم فُجعت، كما بشير (عم الفتيات). إنه مشهد لا يتحمله عقل. طفلتان على
السرير، وثالثة على الأرض، والأم على الكنبة في تورم فظيع ولون أفظع،
والعويل والصراخ يملآن المكان، ورجال قوى الأمن الذين حضروا سريعاً يعملون
على تهدئة أهل الضحايا، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الأدلة. وبعد نحو ساعة
حضرت الأدلة الجنائية وأخرجت الجميع من المنزل، وقامت بواجبها على ما
يبدو، قبل نقل الجثث إلى مستشفى بحنس».
يضيف جميل الراعي: «أعرف
بول وغريس منذ بداية علاقتهما، فهي تهجرت مع عائلتها من القليعات (.روان)
عندما بدأت الحرب بين القوات اللبنانية والجيش اللبناني (عام 1990) وسكنت
في الدير المقابل لمنزل بول. وهناك تعرف إليها. «شو طرأ برأسها ما بعرف؟».
لكنها امرأة رصينة ومسؤولة، تهتم كثيراً ببناتها. وضعها المادي مرتاح جداً
نتيجة عمل زوجها كمدرب للخيول في الخليج. في بيتهم نحو ثلاث سيارات جديدة
ومن أغلى الماركات». يتابع: «يوم التشييع بكيت كما لم يسبق أن بكيت في
حياتي».
قلب الوالد دليله
بول جلخ كان في لبنان قبل أيام،
فكيف كان قلبه دليله وعاد مساء الخميس؟ تقول الرواية التي ذكرها لنا مصدر
موثوق في بحرصاف إن محادثة هاتفية جرت بين الزوجين مساء الأربعاء سجّلتها
غريس. ومن بعدها أقفلت هاتفها ونزعت شريط الهاتف الأرضي. كان اتصال زوجها
بها دائماً ولا مجيب. وعندما اتصل بوالدته ليسألها عن زوجته، قالت له إن
سيارتها تقف أمام المبنى. تفقدتها يوم الخميس ولم ترد. وعاد شقيقه
ليتفقدها ولم ترد. لكن قلب بول لم يكن مرتاحاً، وربما هو يعرف بمضمون
الحوار الأخير بينه وبين زوجته فسارع إلى العودة. ولأنه لا يملك مفتاحاً
لمنزله قصد السوق واشترى بعض الأخشاب للمنزل ومن ثم اتصل بشقيقة زوجته
التي أقلّته بسيارة تعود له إلى منزله. فكانت الفجيعة عندما فتحا الباب
ودخلا غرفة النوم، ووجدا الجثث في غرفة واحدة.
تخطيط مسبق
في
تحليل أمني لمجرى الأحداث، ووفق «شريط الفيديو» الذي وُجد في المنزل، فإن
غريس .اب خططت ونفذت جريمتها بهدوء وأعصاب باردة، وبعدَ أن تأكدت من أن
السم فعل فعله ببناتها تناولته هي. قالت غريس في الشريط المسجل إنها تحب
بناتها كثيراً، لذلك تريد أخذهنّ معها، وإنها يئست من الحياة «وما بقَى
فـيِّ أعمل رجّال ومرا» (أن أقوم بدور الأم والأب في الوقت ذاته). لقد ردد
البعض أن السجال كان دائماً في المرحلة الأخيرة بين غريس وبول، حول ضرورة
عودته النهائية إلى لبنان. نسأل من أراد التحدث إلينا في بلدة بحرصاف عن
وضع أهل غريس، فيقول لنا جميل الراعي إن «شقيقتها التي تعمل في التدريس،
وهي تموت في بنات غريس، في يوم الدفن كانت في حالة انهيار كلي. أما في
أيام التعازي فقد غاب آل .اب (أهل الأم) والتزموا بلدتهم القليعات».
قالت
غريس في التسجيل الذي تركته إنها تدرك أنها مذنبة، وأنها لن تدخل الكنيسة
ليُصلَّى على جثمانها. وهذا ما كان مجالاً للتساؤل حتى قبل الجنازة
بلحظات، إلى أن أمر الكاهن بإدخال الجثمان طالباً من الله مسامحتها على
فعلتها المهولة جداً.
أبت غريس أن ترحل إلا ومعها بناتها الثلاث.
هي رحلت وتركت سرها مسجلاً على «كاسيت فيديو»، لكن ميليسا ومديسون
وألفريدا رحلن، ومعهن عمرهن المحروق والمخطوف قسراً، والزر الذهبي من
مدرستهن، إيذاناً بتخرجهن في المدرسة والحياة قبل الأوان بكثير.
انتحار جماعي
في
محاولة للوقوف على تفسير علم النفس هذه الجريمة، قصدتْ «زهرة الخليج»
الطبيب المتخصص في التحليل والعلاج النفسي، الدكتور مروان غرز الدين، حيث
طرحت عليه الأسئلة الآتية:
• هل تحبّ غريس .اب بناتها حدَّ قتلهن وأخذهن معها؟
-
هو نوع من الانتحار الجماعي. لكن علينا البحث في الأسباب التي أوصلت هذه
المرأة إلى الانتحار. في الانتحار دائماً يكون الإنسان قد تعرض لأمر ما
جعله ينزل بسرعة وقوة. مثلاً في سنة 1939، عندما حدث الانهيار المالي
العالمي، أقدم كثيرون على رمي ذواتهم من ارتفاعات. لا شك في أن تلك الأم
قد تعرضت لسقطة مهمة وكارثية في حياتها. ولا ندري ما هي الحال بينها وبين
زوجها.
• بأي نوع من القوة تتمتع الأم حين تتمكن من رؤية ثلاثة من أطفالها يحتضرون ومن ثم تتناول السم؟ ما هذا التآخي مع الموت؟
-
إنها قوة الضعف. لا شك في أن حدثاً كبيراً حصل مع تلك السيدة أوصلها إلى
هذه الحال. وبما أنها قررت الانتحار لم يكن في مقدورها ترك بناتها من
دونها.
• ما دلالات الانتحار بواسطة السم؟
- عندما سقط
الرايخ الألماني، قامت زوجة غورنغ بإعطاء السم كل واحد من أطفالها. ومن
عذبها قليلاً أقفلت له فمه بالقوة حتى يبلع السم. قتلت كل أطفالها، ومن ثم
قتلت نفسها. زوجة غورنغ شعرت بالهبوط السريع ولم تحتمله، ولم تُرد
الانتحار بمفردها وأخذت أطفالها معها.
• ما الانتحار المنتشر بين النساء؟
-
عادةً، الرجال يستعملون المسدس ولهذا ينجحون في الانتحار أكثر من النساء.
والنساء يلجأن إلى السم والأدوية، ومنهن مَن يفشلن في الوصول إلى الموت.