النظام واللااستقرار فى الشواش
النظامrder اكتشاف النظام في شيء ما أمر ضروري بالنسبة للعلماء والمؤرخين والفنانين والموسيقيين واللاهوتيين، بل حتى بالنسبة للنادلات في المطاعم أو الطباخين أو الجدات اللواتي يرتِّبن دمى عيد الميلاد. يمكن التعبير عن النظام رياضيًّا أو باستعمال المخططات البيانية. والمثال البسيط عن النظام هو الخط المستقيم؛ إذ نستطيع فهم النظام في الخطِّ المستقيم بسهولة لأننا نستطيع إنشاء هذا الخط عبر سلسلة من القطع المستقيمة المتساوية. ويمكن أن نجد النظام في العشواء أيضًا. يقول بوهم ما مفاده إن أيَّ حدث يقع يمتلك شيئًا من النظام؛ لذلك فإن فكرة الافتقار الكلِّي إلى النظام ليس لها معنى واقعي. وبالفعل، فإن ما ندعوها أحداثًا عشوائية تقع في تعاقب موصوف ومعرَّف، ويمكن تمييزها عن أحداث عشوائية أخرى. وبهذا المعنى الأولي من الواضح أن لهذه الأحداث نظامًا. يكون النظام حاذقًا دقيقًا في اللغة والفن والموسيقى والألعاب والعمارة والبنيات الاجتماعية والشعائر والأعراف لأنه يعتمد على المحيط؛ وعلى المشارك في هذه الميادين أن يفهم كلَّ تعقيداته لكي يصل إلى إدراك مقنع وذي معنى لها. يتسم النظام في الطبيعة والأشياء غير الحية والمنظومات الفيزيائية بأنه غير محدود، لكنه نظام دقيق وحاذق أيضًا. يمكن للماء أن يتدفق تدفقًا سلسًا عندما لا يعترضه عائق، لكن الدوامات تنشأ عندما تكون هناك عوائق تتسبب في حدوث نظام شواشي يثور ويجيش جيشانًا متطرفًا. ويمكن أن تنشأ العشواء أيضًا، ويجب أن نفهمها هنا، كنتيجة لفعل العناصر الأصغر جدًّا في السياق الإجمالي الذي تقرِّره حدود الثوران الأوَّلي للماء. وهنا تنطبق نظرية الشواش على فكرة النظام؛ إذ إن جريان الماء يُعتبَر منظومة دينامية تعطي مثالاً عن نظرية المنظومات اللاخطِّية.
إن"المسرح" الذي تجري فيه أحداث وتحولات المنظومة يسمى "فضاء الحالة" أو "فضاء الطور"space phase. يُنظَر رياضيًّا إلى فضاء الطور على أنه الفضاء حيث كلُّ بُعد يقابل متغيرًا في المنظومة. لذلك فإنَّ كلَّ نقطة من فضاء الحالة يمكن أن تقدِّم وصفًا كاملاً للمنظومة عن أحد حالاتها الممكنة (المحتملة)؛ وإن تطور المنظومة يظهر نفسه كارتسام في أحد طرق أو مسارات فضاء الحالة. لذلك عندما نتقصى ونبحث فضاء الحالة (منطقة السلوك المنظوماتي) في منظومة دينامية سيبدو لنا أن تشوشات أو اضطرابات بالغة الصغر وخارجية يمكنها أن تسبب تغيرًا في المنظومة بأكملها. يمكن تعريف هذه الخاصية اللاخطِّية كما يلي: عندما يكون دَخْل المنظومة input غير متناسب مع خَرْجها output ندعوها "منظومة لاخطِّية".
تبيِّن لنا نظرية الشواش أن المنظومات اللاخطِّية تُظهِر سلوكًا شاذًّا وغير منطقي؛ إذ يمكنها أن تخضع لتلقيمات راجعة سالبة أو موجبة، وقد تنتج الاستقرار أو اللااستقرار. ويمكنها أن تنتج التلاحم والتماسك من خلال التقارب والاقتران، أو تنتج الاختلالات والتشعبات، بل وحتى التغيرات الانفجارية. إذن، لكي يحدث الشواش ينبغي أن تكون لدينا منظومة حساسة للشروط الابتدائية، وعلى ترابط (تداخل) وثيق مع بيئتها المحيطة. عندما نفهم المنظومات اللاخطِّية ستبدو لنا متطابقة مع ما يجري في عالم الحياة اليومية الذي نعيشه
اللااستقرار :instability يتضمن التعقيد/الشواش الدينامية dynamics، أو ما دعاه لورنتس "حالات البعد عن التوازن". تذكِّرنا كلمة "توازن" بمشهد البحيرة الهادئة. إن حالة السكون أو الاسترخاء هي إحدى تعريفات التوازن، لكنه يتطلب أيضًا فكرة "الاتزان" balance. يُعَدُّ التوازن نادرًا في المنظومات الدينامية المعقدة أو نوعًا من "مرحلة رجحان مؤقتة". وكي تبدأ السيرورات الدينامية لا بدَّ أن تنحرف المنظومة عن حالة التوازن. يرى بريغوجين وستنغرس أنه كلما كانت المنظومة أعقد كانت التشوشات والاضطرابات والتقلبات التي تهدد استقرار المنظومة أوفر عددًا. وعندما تصبح المنظومة عرضة للتأثر بهذه الاضطرابات فإن متطلباتها من الطاقة تتعاظم كي تحافظ على تماسكها. يحدث الاستقرار في جميع أنواع البنيات، الجوامد والغازات، المنظومات الحية وغير الحية، العضوية وغير العضوية، وكذلك في المؤسَّسات والأعراف. تسبب التقلبات الخارجية أو الداخلية تحولاً في المنظومة من الاستقرار إلى اللااستقرار؛ لكن هذا لا يحدث بالضرورة بسبب أيِّ تقلب عاديٍّ يقع، بل إنه يعتمد على نمط وقَدْر التقلب أو الاضطراب، بالإضافة إلى درجة حساسية المنظومة للتأثر. هذا الأمر يجب أن يؤخذ بالحسبان قبل أن تُعتبَر المنظومة غير مستقرة. وفي بعض الأحيان، قد تحتاج المنظومة إلى أكثر من نوع من الاضطراب كي تتحول إلى حالة غير مستقرة. ويتحدث بريغوجين وستنغرس عن "التنافس بين الاستقرار من خلال الاستمرارية، واللااستقرار من خلال التقلُّب"؛ وحصيلة هذا التنافس تحدِّد "عتبة الاستقرار" threshold of stability. بكلمات أخرى، يجب أن تنضج الشروط الملائمة كي يحدث "الجَيَشان". يمكن أن نعطي أمثلة عن اللااستقرارية من ميادين عدة، كالأمراض والقلاقل السياسية والاختلالات الاجتماعية والأسرية. ويستخدم كامبل القول المأثور عن أنه ربما تكون القشة التي قصمت ظهر البعنبر هي ما يجعل المنظومة تذروها الرياح!
تتحرى نظرية الشواش عن المنظومة بالتساؤل حول الخاصية العامة لسلوكها على المدى الطويل. وتبحث الحلول الشواشية عن التفسير الكيفي quality لسلوك منظومة في المستقبل. إن الحلول الكمية quantity القريبة ربما تخبرنا متى تتراصف ثلاثة كواكب في مدارات إهليلجية؛ بينما تخبرنا الحلول الكيفية كيف تتشكل هذه المدارات في إهليلج، وليس في دوائر أو قطوع مكافئة، وتبحث خصائص جميع الحلول لهذه المنظومة وكيف ستغير المنظومة سلوكها. إن منظومة من قبيل كرة صغيرة (كلَّة) في أسفل وعاء، قد تستثار؛ وعندئذٍ سوف تُبدي بعض السلوكيات المضطربة، ولكنها في النهاية تستقر في أسفل الوعاء. والساعة أيضًا، عندما تتعرض لارتجاج أو صدمة خفيفة مفاجئة، قد تتوقف للحظة، لكنها تستأنف دورانها بعد ذلك. ونقول إن هذه المنظومات مستقرة، بينما المنظومات اللامستقرة (وغير الدورية) لا تستطيع أن تقاوم هذه الاضطرابات الطفيفة، وسوف تبدي بسببها سلوكًا معقدًا يجعل التنبؤ مستحيلاً، فتكون القياسات عنها في هذه الحالة عشوائية.
والتاريخ الإنساني هو المثال الممتاز عن المنظومات غير الدورية. تبزغ الحضارات وتتلاشى، لكن الأشياء لا تحدث أبدًا بالطريقة ذاتها. فأحداث صغيرة أو أشخاص أفراد قد يغيِّرون العالم من حولهم. وتحتوي الأمثلة المعروفة عن السلوك غير الدوري واللامستقر تجمعًا ضخمًا من الواحدات المتفاعلة. قد تتركب المنظومة من عوامل بشرية متنافسة أو جزئيات غاز متصادمة. وقد تحدث التغيرات بشكل متعاقب في المنظومات المعقدة البعيدة عن التوازن، وتؤدي إلى تفكيك الرباط بين القوى الداخلية التي تعطي المنظومة تماسكها والقوى الخارجية التي تمثل بيئة المنظومة. ويتيح الرباط للمنظومة، في أغلب الأحيان، أن تعمل بسلاسة؛ ولكن عندما تتصاعد حدَّة الاضطرابات، وتخضع المنظومة لـ"ضغوط" تتجاوز عتبات محددة، تبرز دلائل حادة على القلقلة، وقد يحدث شواش لاخطِّي مفاجئ، فتبدأ الأشكال الحادة للشواش بسلوك زائغ. ويسبب الانتقال أو الانزياح من جاذب إلى آخر تضاربًا في سلوك المنظومة. فما الذي يستطيع فعله أحد البشر، مثلاً، عندما يجد نفسه، على حين غرة، أمام مشكلات كثيرة ينبغي في ظلِّها اتخاذ قرار ما؟ يرى أحد العلماء أن المنظومة البشرية ينبغي أن تعنبر يقظة وانتباهًا وعناية أكبر كي تحفظ روابطها الداخلية وشبكات التواصل فيها.
وتتَّسم سيرورة اتخاذ القرار عند الإنسان ببصمات الشواش الواضحة؛ إذ يكون هناك الكثير من الدوافع والمسلَّمات والمضامين التي ينبغي اعتبارها عند اتخاذ قرار. فهنا يساعد "الجاذب الغريب" strange attractor في هذه السيرورة ويدفع في اتجاه أحد الممكنات. وقد يكون الجاذب الغريب عقدة نفسية، أو يتخذ شكل المنظومة الاعتقادية للإنسان .
الجاذب الطارئ (الغريب): ليس سهلاً أن نعرِّف بالجاذب. لقد أعطى أحد العلماء التعريف التالي: الجواذب هي مجموعة محدودة تحتوي المسارات. الجاذب الطارئ هو، ببساطة، نموذج للمسار الذي يرسمه سلوك المنظومة عندما نعبِّر عنه تخطيطيًّا. ويميل سلوك المنظومات اللاخطِّية إلى التقلص أو الانقباض ضمن مناطق محددة من فضاء الحالة. نسمي هذا الانقباض بـ"الجاذب"؛ وهو يعبِّر، من الناحية الفعلية، عن "مجموعة من النقاط التي تتقارب جميع المسارات متجهةً نحوها". يُعَدُّ مفهوم الجاذب الطارئ مركزيًّا في نظرية الشواش. فعندما نفتح صنبور الماء كي نحصل على تيار مائي أسرع وأسرع، يمكننا أن نلحظ تطور فعل التيار المائي من الانطلاق السَّلِس وصولاً إلى الجيشان. تمثل هذه الأنواع المختلفة من الجريان نماذج متنوعة ينجذب إليها جريان الماء. وثمة ثلاثة نماذج من الجواذب التي نشاهدها في المنظومات:
(1) الجاذب النقطي: ويتعلق بالمنظومات التي تصل إلى توازن مستقر؛ وتمثل له حالة نواس يتأرجح، ثم لا يلبث أن يتوقف في نقطة.
(2) الجاذب الدوري: يتعلق بالمنظومات التي تكرِّر ذاتها في تأرجُحات دورية. فمثلاً، إذا أضفنا إلى النواس السابق نابضًا لكي يتغلب على قوى الاحتكاك، تصبح للنواس دورة محدودة في فضاء الطور الخاص به. ونقول عندئذٍ إن الجاذب الدوري يرسم سيرورات تكرِّر ذاتها .
(3) الجاذب الطارئ (الغريب): ويتعلق بالمنظومات الشواشية. ويدل اسمُه على أنه يطرأ على المنظومة (بعد أن تدخل في مرحلة التحول الطَّوري) بشكل غير متوقع وغير قابل للتنبؤ به، مما يوحي بأنه غريب عن فضاء الطور الخاص بالمنظومة.